Tuesday, April 04, 2006

عن بهجه المقابر


ما أن اقتربت من المسجد لصلاة الجمعة حتى أصابني الذعر .. وجوه الجالسين متجهمة ساهمة مربدة والخطيب يبكي بتلك الطريقة (الخليجية) المنتحبة المولولة، وهو ينشد لمدة ربع ساعة شعرًا رديئًا جدًا من تأليفه غالبًا .. ينشده كأنه يغني، وكلام عن الموت، وكيف سيغمضون - إن شاء الله البعيد - عينيك بعد الوفاة، ثم يخيطون عليك الكفن، ثم يحملونك ليلقوا بك في حفرة عميقة مظلمة تجد فيها نفسك وحدك مذعورًا بردان مصدومًا، ثم كيف سيعبث الدود بك وكيف سيلهو في محجريك ويخرج من أنفك، وكيف تصير ترابًا متحللاً.. يقول كل هذا بصوت متحشرج مخنوق، ثم يتوقف دقيقة للبكاء بعدها يعاود الكلام وقد بدا أنه لن يصمت أبدًا ..كل هذا الكلام جميل ومهم جدًا . فقط هناك مشكلة واحدة هي أننا كنا في ثاني أيام عيد الفطر !! بحثت بعيني عن النعش الموضوع بانتظار الصلاة عليه فلم أر .. سألت عما إذا كان أحدهم قد مات فلم أجد .. !. المجنون يخطب هذه الخطبة الملتهبة الباكية عن الموت في ثاني يوم من أعياد الفطر لمجرد أن هذا موضوع مبهج راق له !ونظرت للجالسين حولي فرأيتهم في حالة لا توصف من الكآبة والغم، وبعض المراهقين راحوا يتبادلون الضحكات المكتومة .. لكن سلطة الميكروفون وهيبته لا يمكن خرقهما .. اللعنة على من يصرخ أولاً توقف .. هذا هو شعار اللحظة .. أول من يفتح فمه معترضًا هو منافق غالبًا وربما زنديق كذلك ..ثم لاحظت ذلك الأداء الهستيري .. منذ أعوام ساد مفهوم أن كثرة بكاء الإمام دليل على شدة التقوى، وصار الخطباء يفتشون عن البكاء واختناق الصوت بحثًا .. أما من لا يبكي فهو على الأرجح خطيب غير جيد لم يعرف الإيمان طريق قلبه.. ثم نغمة التعالي هذه .. كأنه يقول لنا: أنا ضمنت مكاني في الجنة وخلاص .. فقط أنا قلق عليكم أيها التعساء .. كل هذا الاستمتاع بوصف الدود الخارج من الأنف والكفن والقبر في يوم العيد وبلا أية مناسبة .. هل هو أقرب للتقوى أم أقرب إلى الاكتئاب والخلل العقلي ؟.. إنها (الملانخوليا) ذاتها .. إنها الماسوشية التي تعشق تعذيب النفس، وهي السادية التي تعشق تعذيب الآخرين .. ربما يجد علماء النفس مثل د. (الرخاوي) مصطلحات أدق تصف هذه الظاهرة مثل (التافيفيليا) التي هي التلذذ بفكرة الدفن .. كلها أفكار يعرفونها ويصفونها في الخارج لكنهم لم يربطوها بفكرة التدين العميق .. فقط ربطوها بالخلل النفسي ..أنت لست تقيًا يا صاحبي كما تعتقد .. أنت مجرد مريض نفسي سلموه الميكروفون ..لديك ألف موضوع تفتحه في العيد .. بشروا ولا تنفروا .. لو أردت أن تلقن هؤلاء كم أنت تقي وكم أنهم أوغاد، فلديك الكثير من السلوكيات التي يمكن أن تتكلم عنها .. الشباب يترنحون في الشوارع ليلة العيد ممسكين زجاجات التوسيفان . فلماذا لا تعلق ؟.. لا أطالبك بأن تكون سيد قطب وتنتقد الأوضاع التي أدت بهم لهذا الوضع فلا أعتقد أن لديك هذه الشجاعة .. لكن هناك بالتأكيد ألف موضوع يصلح ليوم العيد غير الدود والكفن ..كنت استمع للخطبة وأنا أتذكر كتب عذاب القبر التي صنعت مليونيرات من ناشريها .. فجأة صارت هذه هي ثقافة الشباب المصري، ولم يعد له حديث إلا عن الثعبان الأقرع وعدد ضمات القبر لدى نزول الجسد فيه .. عرفت مهندسة في الثلاثين - ذروة العطاء - أدمنت هذه الكتب وصارت خبيرة في كل الأهوال التي ستلاقيها في القبر .. ثم رأيتها قد اشترت لنفسها الكفن واحتفظت به في فخر واعتزاز .. طيب ليه يا ستي ؟.. لما تموتي بإذن الله سيشتري لك أهلك الكفن .. لكنها مصرة على أن هذه من علامات التقوى ..وترى أغلفة هذه الكتب فترى الاستمتاع السادي الذي رسم به الرسام تلك المقابر في الصحراء، حيث ساعة الغروب تضفي جهامة على كل شيء .. طبعًا كان يتمنى أن يرسم ذئبًا أو ذئبين لكن هذا سيجعل الكتاب لا يباع في السعودية لأن الذئب كائن حي..تذكرت كذلك كلمات الصحفي الأمريكي سليط اللسان (توماس فريدمان) عن العرب والمسلمين .. هؤلاء فشلوا في الحياة وفي مجاراة العصر فجلسوا جوار جدار يحقدون .. هل كلامه خطأ على طول الخط ؟... هذا الخطيب يمثل عينة من الذين فشلوا في كل شيء .. لم يبق أمامهم إلا التلذذ بفكرة الموت .. فشلوا في الدنيا فجلسوا ينتظرون الآخرة، وهم لا يعرفون أن من أضاع دنياه أضاع آخرته .. قل أي شيء .. قل أي تفسير لكن لا تقل لي من فضلك إن هذا العواء والبكاء ولطم الخدود في يوم العيد بلا أية مناسبة أمر طبيعي .. هذه طبيعة مريضة مكانها المصحة وليس المسجد..والخطبة تدنو من نهايتها فيعتذر الرجل عن التطويل .. ثم يعتذر عن النكد الذي سببه لنا بالكلام عن الموت في العيد .. "أردت أن نتذكر نهايتنا في هذا اليوم بالذات"هكذا سيعود لداره مسرورًا راضيًا مما يعتقد أنها ضربة لازب أو (ضربة محسوسة جدًا) على رأي شكسبير .. سوف يؤرخ لهذا اليوم باعتباره اليوم الذي حقق فيه فتحًا ومنع هذه الخراف الضالة من اللهو والفرح والتفاؤل يوم العيد .. ولو لم يلق خطبته هذه لغادرنا المسجد لنغتصب كل امرأة نراها ونفرغ براميل الخمر ونبقر بطون الحوامل ونأخذ بلحي الشيوخ الأجلاء ..أحد المصلين همس في أذني وهو يغادر المسجد : ما هذه الخطبة المجنونة ؟ .. نظرت له واتسعت عيناي مهددًا.. وقلت ضاغطًا على كلماتي: ما دمت متضايقًا فأنت تخشى الموت .. لماذا تخشى الموت ؟.. لابد أن ذنوبك كثيرة كرمال الصحراء ولست نقيًا مثلي .. تذكر يا أخي أنك قد تبيت الليلة تحت الأرض يعتصرك الثعبان الأقرع .. عندها لا تقل إن الخطيب لم يحذرك
.د. احمد خالد توفيق

No comments: